أنتَ امبراطـــور

امبراطور
بقلم : مصطفى محمود

لا تصدقني إن قلت لك أن تعيش حياة أكثر بذخاً من حياة كسرى أنو شروان وأنك أكثر ترفاً من امبراطور فارس وقيصر الرومان وفرعون مصر ، ولكنها الحقيقية

إن أقصى ما استطاع فرعون مصر أن يقتنيه من وسائل النقل كان عربة كارو يجرها حصان وأنت عندك عربة خاصة وتستطيع أن تركب قطاراً وتحجز مقعداً في طائرة

وامبراطور فارس كان يضيء قصره بالشموع وقناديل الزيت وأنت تضيء بيتك بالكهرباء

وقصير الرومان كان يشرب من السقا ويحمل إليه الماء في القرب

وأنت تشرب مياه مرشحة من حنفيات ويجري إليك الماء النظيف في أنابيب
وهارون الرشيد كان عنده فرقة موسيقية في أوقات لهوه وفراغه وأنت عندك مفاتيح الراديو توصلك إلى آلاف الفرق الموسيقية وتحمل إلى أذنك المبهج والمطرب والممتع من كل صوت وكل فن .
ولويس الرابع عشر كان عنده طباخ يقدم له أفخر أصناف المطبخ الفرنسي وأنت تحت بيتك مطعم فرنسي ومطعم صيني ومطعم ألماني ومطعم ياباني ومحل محشي ومحل كشري ومسمط ومصنع مخللات ومعلبات ومرطبات وحلويات .
وقارون أغنى أغنياء العالم يقول لنا التاريخ أن كل ثروته لم تكن تزيد عن مائتين من الجنيهات بالعملة النحاسية وهو مبلغ تستطيع أن تكسبه الآن في شهر .
ومراوح ريش النعام التي كان يمروح بها العبيد على وجه الخليفة في قيظ الصيف ولهيب آب عندك الآن مكانها مكيفات هواء تحول بيتك إلى جنة بلمسة سحرية لزر كهربائي .
أنت امبراطـــور .
وكل هؤلاء الأباطرة جرابيع وهلافيت بالنسبة لك ، ولكن يبدو أننا أباطرة أغبياء جداً ولهذا فنحن تعساء جداً برغم النعم التي نمرح فيها .
فمن عنده عربة لا يستمتع بها وإنما ينظر في حسد لمن عنده عربتان ، ومن عنده عربتان يبكي على حالة لأنه جاره يمتلك طائرة ، ومن عنده طائرة يكاد يموت من الحقد والغيرة لأن اوناسيس عنده مطار ، ومن عنده زوجة جميلة يتركها وينظر إلى زوجة جاره .. وفي النهاية نسرق بعضنا بعضا ونقتل بعضنا بعضا حقداً وحسداً ثم نلقي بقنبلة ذرية على كل هذا الرخاء ونشعل النابالم في بيوتنا ثم نصرخ بأنه لا توجد عدالة اجتماعية ويحطم الطلبة الجامعات ويحطم العمال المصانع .
 والحقد وليس العدالة هو الدافع الحقيقي لكل الحروب .
ومهما تحقق الرخاء للأفراد فسوف يقتل بعضهم بعضا لأن كل واحد لن ينظر إلى ما فيه يده وإنما سينظر إلى ما في يد غيره ولن يتساوى الناس أبداَ .
فإذا ارتفع راتبك ضعفين فسوف تنظر إلى من ارتفع أجره ثلاثة أضعاف وسوف تثور وتحتج وتنفق راتبك في شراء مسدسات!
لقد أصبحنا أباطرة … هذا صحيح ولكننا نفكر بغرايز حيوانات .
تقدمنا كمدنية وتأخرنا كحضارة ، ارتقى الإنسان في معيشته وتخلف في محبته .
أنت امبراطور … هذا صحيح ولكنك أتعس امبراطور وسوف تقتل نفسك وتترك بطاقة مضحكة تقول فيها : انتحرت بسبب الفقر لم أستطع أن أعيش امبراطور في عالم كله من (السوبر أباطرة) !     

 

 

 

قطار اللذة
منذ ألف سنة كان أقصى ما يطمح فيه الإنسان قطعة أرض وبضعة رؤوس من الماشية كان هذا هو الثري الأمثل في ذلك العصر وكان أقصى ما يحلم به ذلك الثري هي عربة مطهمة يجرهـا حصان ليدخل بها مجتمع الوجهاء وأهل الشياكة
واليوم نقول عن من يملك العربة والحصان أنه عربجي وهو في اعتبارنا من الناس الدون .
أما أهل الشياكة والوجاهة فقد استبدلوا الأرض بالعمارات ، ثم استبدلوا العمارات بالشركات ، ثم استبدلوا الشركات بمجرد دفتر سندات أو دفتر شيكات بحجم الجيب ، مجرد رأس مال يتوالد من تلقاء ذاته بالإسهام في أي مشروع وانتهى اسطبل المواشي ليحل محله كراج عربات مرسيدس .
ثم انتهى أمر الكراج وتركه الأغنياء للسوقة والناس الدون وصار الواحد منهم يمتلك طائرة خاصة أو مرسى لليخوت أو باخرة .
وغداً تصبح الطائرات من أملاك الفقراء ويظهر الأغنياء الوجهاء الذين يملكون الصواريخ والسفن الفضائية والأقمار الصناعية وتصبح رحلة الويك إند عشاء ساهراً في المريخ .
الزمن استدار وانتقل الناس من حال إلى حال بسرعة غريبة وأحلام زمان أصبحت الآن متاحة للكل ، والفلفل والحبهان الذي كانت تحمله السفن من الهند عبر رأس الرجاء الصالح في رحلات مهلكة محفوفة بالأخطار ليوزن بالذهب ويوضع في الخزائن وعلى المجوهرات ولا يظهر إلا على موائد أصحاب الملايين ومثله مناديل الحرير الهندي التي كنا نقرأ عنها في بيوت اللوردات في روايات زولة وبلزاك
كل هذا نزل ليصبح في متناول السوقة
والفلفل والحبهان الآن عطارة الفقراء
والحرير طردة النيلون والداكرون والتريلين من السوق فهبط إلى نصف ليرة للمنديل وأصبح زينة متاحة للخدم وعاملات المحلات .
أي إنسان من مستويات الدخل البسيطة يستطيع الآن أن يحصل على كثير من وسائل الترف التي كانت تحلم بها جدتي وجدي و يسيل لها اللعاب .
ومع ذلك فالبؤس موجود والتعاسة ما زالت هي القاعدة والشكوى مستمرة على جميع المستويات .
تشهد بذلك أعمدة الصحف والأغاني والكتب وأخبار الإذاعات ووجوه الناس المربدة المتجهمة في الشارع ومشاكساتهم الدائمة وصدورهم الضيقة بكل شيء .
لا شيء مما تصور الإنسان أنه سوف يسعده وهو ما كاد يمتلك ما كان يحلم به حتى زهد فيه وطلب غيره .. وهو دائماً متطلع إلى ما في أيدي الآخرين غافل تماماً عما في يده .. ينسى زوجته ويرغب في زوجة جاره وزوجته أحلى وأجمل ، ولكنها الرغبة التي لا تشبع والتي يتجدد نهمهـا دائماً و تتفتح شهيتها على كل ممنوع ومجهول .
والله يكشف لنا الحقيقة بشكل أعمق في القرآن فيقول أنه خلق الدنيا ولها هذه الطبيعة والخاصية فهي (متاع) “إنما هذه الحياة الدنيا متاع” والمتاع هـو اللذة المستهلكة التي تنفد من خصائص الدنيا كما أرادهـا خالقها أن جميع لذاتها مستهلكة تنفد وتموت لحظة ميلادهـا .
في كل لذة جرثومة فنائها .
الممل والضجر والعادة ما تلبث أن تقتلهـا .
هي الطبيعة التي أرادهـا الله للدنيا لأنه أرادهـا دار انتقال لا دار قرار ولهذا جعل الله كل لذة بلا قرار ولا استقرار لأنه لم يرد لهذه اللذات أن تكون لذات حقيقية وإنما أرادهـا مجرد امتحان لمعادن النفوس ، مجرد آثاره تختبر بها الشهامة والنبل والعفة وصدق الصادقين وإخلاص المخلصين .
والذي يدرك هذا سوف يستريح تماماً ويكف عن هذه الهستيريا التي تخرجه من شهوة لتلقي به في شهوة وتقوده من رغبة لتلقي به في اتون رغـبة وتجره من جنون لترمي به في جنون .
سوف يريح ويستريح ويحاول أن يروض نفسه ويصطفي روحه ويطهر قلبه ويعمل للعـالم الآخر الذي وعد به الله جميع أبنائه بأنه سيكون العالم الذي تكون فيه اللذة حقيقية ، والألم حقيقياً .
وهـو لم يندم على ما سوف يفوته من لذات هذه الدنيا لأنه علم تماماً وبالتجربة والممارسة أنها لذات خادعة تتفلت من الأصابع كالسراب وهـو قرأ التاريخ وعرف أن مال قارون لا يزيد الآن بالحساب الحالي عن مائتين من الجنيهات بالعملة النحاسية هكذا قدرت جميع خزائنيه بالاسترليني .
وما أكثر من يملك من مائتين جنيه الآن من سكان بيروت ويشكو الفقر ويلعن اليوم الذي ولد فيه مع أنه بحساب التاريخ أغنى من قارون ، إنها الخدعة الأزلية .
تحلم بامتلاك الأرض فإذا بالأرض هي التي تمتلكك وهي التي تكرسك لخدمتها .
تتصور أن المال سوف يحررك من الحاجة فإذا بالمال يفتح لك أبوابا لمطالب أكثر وبالتالي يلقي بك في اهتياج أكثر ، وكلما أحرزت مليوناً احتجت إلى ثلاثة ملايين لحراسة هذا المليون وضمانه .
وتدور الحلقة المفرغـة ولا نهاية .
وهذه طبيعة عالمنا الكذاب الذي نمتحن فيه .
كلنا نعلم هذا مع ذلك لا نتعلم أبداً .

تعليق 1

  1. أفاتار مُتخمة بالكبرياء مُتخمة بالكبرياء كتب:

    الحمدلله على واسع فضله . .
    أحياناً الحسد يأخذنا لأبعد مايكون عن جنب الله ,
    بالسخط والطمع والأنانية . .
    تُحفة لو وعتها العقول لما ذاقت الضيق قط .
    شكراً على المشاركة =)

اكتب تعليقًا