الشكر لمعدتي! التي تعاني من عُسر هضم بسبب عادةً غذائيةٍ خاطئةٍ مارستها قبل ثلاث ساعاتٍ من الآن . بفضلها لا أستطيع النوم ، بفضلها ها أنذا أكتب لكم من جديد ..
تجربتي في التدريب الميداني لا تلخصهُ كلماتٌ قليلة لقد كان خليطًا ضخمًا من المشاعر والأفكار والأشياء
منذ أن بدأتُ الدراسة في الجامعة كنتُ أترقب التدريب الميداني .. باستطاعتكم القول أنني انتظرتُ هذه الأيام لمدة أربع سنواتٍ ونصف … كنتُ دائمًا ما أتخيلني وأنـا أستاذة ، يقتلني فضولي آنذاك حول “شكلي ، هيئتي ، شخصيتي ، رفيقاتي” في الميداني .. وفي إطار حياتي فقيرة الإثارة أظنها كانت بالنسبة لحياتي الأكثرُ إثارةً على الإطلاق .. وجاء هذا اليوم المنتظر الذي نُحدد فيه الحي السكني المرغوب والذي على أساسه يتم توزيعنا على المدارس التابعة لهذه الأحياء ، احترتُ كثيرًا بين عدة أحياء قريبةٍ من بيتي ، لم أكن لأكترث بالمسألة الشائعة وهي اتفاق الصديقات على حيٍ واحد وهذا يعني : مدرسةٌ واحدة ..
انتهى بي الأمر إلى اختيار الحي الأكثر رقيًا بين البقية ، لم أكن أدرك وقتها أن ذلك يترتب عليه لقائي بزميلةٍ تُحب أن تُخبرنا كل يومٍ كم هي ثريةٌ للغاية .
على الجانب الآخر “ولأنه كان حيًا راقيًا” كان عدد الطالباتِ قليلًا جدًا مقارنةً بالمدارس الحكومية الأخرى ، تقول المديرة أن هذه المدرسة تُعدُ المدرسة النموذجية على مستوى منطقة الرياض ، مشرفتي الدكتورة والتي قضت ما يقارب عشر سنين وهي تتنقل بين مدارس الرياض تؤكد ما قالته لنا المديرة .. لذلك كلما أُرهقَ رأسي من أحاديث زميلتي “المهايطية” أعزّي نفسي أنه لولا هذا الحي الراقي لما حصلتُ على الكثير من المميزات ..
أحبني الطالباتُ حبًا جماً.. كنتُ لطيفةً للغاية ، أذكر أن إحداهن حرضّت على زميلتها: أبلا ، دانة تاكل علك! .. أوقفتُ الدرس ، اقتربتُ من دانة ، ركزتُ نظري عليها.. ارتبكت دانة وحاولت إخفاءه تحت لسانها وهي تقول متلعثمة : والله ما أكلت !
ابتسمتُ لها، قلتُ : عادي حبيبتي كولي ..
شهقةٌ جماعيةٌ سمعتها من طالباتي ، أظنني أول وآخر معلمةٍ في التاريخ ستسمحُ للطالبات بمضغ العلكة … مضغ العلكة هو أكثر موضوعٍ يمس كرامةَ المعلمة – في مجتمعي الصغير –
سمعتُ طالبةٌ في الخلف تقول : أبلا واللهِ أنتِ كيوت
طالباتي كن في الصف الأول المتوسط ، تختلطُ بهن براءةُ الطفولة ، وخُبثُ هذا العصر .. لذلك أراهُنّ لوهلةٍ أطفالاً صغارًا ولوهلةٍ أخرى كأنهن يكبرنني سنًا .. ولكن الشيء الذي أجزم عليه هو أنه كان من السهل تشكيلهن بأي شكلٍ كان .. ليتني أعرف ما الأثر الذي تركته في أرواحهن …
على نقيضِ زميلاتي كنتُ ذاتَ بالٍ واسعٍ أستمع لأحاديثهن المملة ، والخارجة عن المألوف ، أحببتهن كما هن ، تحدثن معي عن الجن ، الأغاني والمسلسلات والحب والغرام ، كنت أستجيب لهذه الأحاديث المحظورةٍ عند المعلمات عامةً ، كان هدفي أن أصل إلى قلوبهن ما استطعت وأزعم أنني حصلتُ على غايتي
بفضل الميداني اكتشفتُ أنني “قوية شخصية” لقد عشتُ وأنـا أظن بأنني كالعصفور الضعيف ، الميداني كشف لي أنني لا أزال عصفورًا ولكن ذو مخالبَ حادة .. ربما لو كنتُ حظيتُ بزميلاتٍ متناغماتٍ معي لما علمتُ عن امتلاكي لهذه الصفةَ الذهبية .. نعم لقد بدأتُ أولى أسابيعي في الميداني بشجارٍ حادٍ معهن ، كنتُ واحدة وكُن ثمانية .. كانت أيامًا مشحونةً بالغضب والحنقة ، كلما تذكرتُ ذلك اليوم في الفسحة ، كان هذا الوقت الذي نجتمع فيه كلنا في الغرفة المشتركة ، أغلقتُ الباب إيذانًا بحديثٍ ناريٍ كن هن الملامات فيه .. كلما تذكرتُ ذلك اليوم ، غضبي وكلماتي وقوتي أشعر أنني لستُ أنـا … لقد أيقنتُ منذ ذلك اليوم أن هناك الكثير من الكنوز المخبأة في داخلنا تظهر بفضل الظروف التي أيقظتها من سباتها وأجبرتها على الخروج ..
نقطة ضعفي في الميداني أنني لم أكن حازمةً مع الطالبات ونتيجةَ لذلك أُرهقتُ كثيرًا وأُرهق صوتي وجسدي وعقلي مع كل لحظةٍ حاولتُ فيها ضبطَ الفصل
في الميداني كان لزامًا عليّ أن أُتقن فنّ التعايش ، “لزامًا” لو نظرّنا المسألةَ لربما بدت لي مثيرةً للغاية وهي أن أضعكَ لمدة ست ساعاتٍ يوميًا في غرفةٍ مشتركة مع أشخاص يختلفون عنك كليًا وأقول لك : هيّا، تعايش معهم
المسألةُ على أرض الواقع كانت صعبةً جدًا ، وأعترف، لم أنجح في إتقان هذا الفن إلا بنسبةٍ بسيطةٍ جدًا .. لذلك بنيتُ مجازًا بيتَ سلحفاةٍ أدخل فيه غالبية الوقت ، سيكون كرمًا غير متوقعٍ من زميلاتي لو أحببني في الميداني ، كنتُ غامضةَ وصامتةَ .. لو تحدث سوء الظن لقال : يــالبرجها العاجي!
كانت هنالك زميلة ، في الغرفة المجاورة ، كانت طالبةً مثلنا أتت مع زميلاتها للتدريب من جامعةٍ مختلفة ..
أحببتها كثيرًا وأحبتني ، على الرغم من أننا لم نلتقي ببعضنا سوا مراتٍ قليلةٍ لا تكفي لبناء حبٍ عميق ، ولكن الأمر معها مختلفٌ إذا ما آمنا بقول الرسول الأعظم “الأرواح جنودٌ مجندة” … أخبرتها عندما ودعتها أنني أشعر بأني سألتقيها مرةً أخرى في مكانٍ آخر ..
المدرسة كانت بيئة محبطة إحباطًا لا تلخصه الكلمات ، المعلمات بحاجة إلى من يعلمهن ! .. والمديرة بحاجة إلى من يديرهـا .. جملةٌ كهذه أظنها تلخص مظاهر السلبية وعدم الأمانة و -التسليك- التي رأيتها هناك … وليكن بحسبانك أنني كنتُ في أفضل مدارس الرياض ، إن كانت البيئة هكذا هنا فما الذي بقي للمدارس الأخرى ، أبشركم نحن لا نتقدم ، نحن نتراجع وبجدارة ، وإذا ما استمريتُ في ممارسة مهنة التدريس بعد التخرج فاعلم أنني سأكون ملكة السلبية والأحباط ، ذلك لأن التغيير في هذه البيئة لا يحصل من شخص واحد … لا أقوى على وصف ما رأيت ، ربما سيكون المثل القائل ( النفخ في قربة مشقوقة ) هو المثل الصحيح الذي يُقال لكل شخصٍ يحاول التحسين في بيئة التعليم – لوحده – ..
بقي أن أشكر جامعتي جامعة الملك سعود ، لقد هيأتنا لهذه الأيام كثيرًا . فكان لزامًا على كل طالبةً من طالبات كلية التربية أن تدرس مقرراتٍ خاصةٍ بالتدريس والإدارة الصفية ..
أخذتُ عهدًا على نفسي أنه وبنهاية هذا الفصل الدراسي لا يُسمح لي بالندم على شيءٍ فعلته أو لم أفعله ذاك لأنني قدمتُ كل مالدي ، أعني أفضلَ ما لديّ ، كانت تجربتي الأولى كمعلمة لذا كان طبيعيًا جداً ألا أبدو كاملةً .. كنتُ أتعلم ، حتى أنني كثيرًا ما تمنيتُ أن يقف الزمن لوهلة لأعرف ما هو التصرف الصحيح في هذا الموقف ، كثيرًا ما كنتُ أجهل الرد المناسب والفعل المناسب والكلمةَ المناسبة .. رغمُ ذلك كنتُ رائعة رغم كل أخطائي أظنني بذلتُ جهدًا ووقتًا ومالًا وفكرًا لأجل أن أعيش هذه التجربة وفقًا لما خططتُ لهذا منذ سنينَ مضت ، كان حلمًا وتحقق ، وعشته بحلوه ومره وهاقد انتهى ..
الله يوفقك