القصيم.

لا تجتمع الحرية والاتكالية ، ثمن الحرية أن تكون شخصًا مسؤولًا ،

اعتدتُ دائمًا أن أكون اتكالية .. وهذا يرجع لترتيبي المتأخر في عدد العائلة ، اعتدتُ دائمًا ألا أعتمد على نفسي في قضاء حوائجي

لهذا بدت المسؤولية ولا تزال مرهقةً بالنسبة لي

في رحلتي إلى القصيم لم تكن الرحلة ماتعة ، كما كنتُ أظن .. جاورتني في الطائرة فتاةٌ لطيفة جرحتها دون قصدٍ مني ، أنا آسفة يا صديقتي .

بدأ العالم المليء بالرجال منذ اللحظة التي حطت بها قدمي أرض القصيم ، استقبلني ذاتُ الوجه الذي لا أحبه .. ثم غادرنا إلى الفندق ، كعادة الرجال اللطيفة في لعب دور الأبطال وبحسن نية طلب مني الانتظار في بهو الفندق لحين أن ينهي لي إجراءات الدخول ..

في اليوم الثاني التقيتُ مع بعضهم على مائدة الإفطار ، احترتُ كثيرًا في البداية عن إذا ما كان جلوسي معهم في نفس الطاولة فكرةً سديدةً أم لا ، قويتُ نفسي ، وعززت صفات الذكورة في داخلي .. وقررتُ الجلوس معهم ، لاسيما أنني سأقضي معهم يومًا كاملًا فإما أن أذيب الجليد حالًا ، أو سيظل بقية اليوم محرجًا بالنسبة لي ..

نجحت خطتي في تقديم نفسي بطريقةٍ ذكورية ، أعني بصوتٍ عالي ، متزن ، نظرات ثابتة ، وطريقة حديث هادئة

شاركنا الإفطار أحد المتدينين ، لم يتقبل وجودي معه في نفس المائدة قرأتُ وجهه، كما أن المسألة ليست بحاجةٍ لقراءة ! .. كنتُ حريصةً أثناء حديثنا أن أخبرهم عن خلفيتي الدينية المتينة (لم تعد كذلك) أعني أن تخصصي الجامعي كان شرعيًا، ختمتُ القرآن حفظًا مرتين في حياتي أثناء دراستي في مدارس تحفيظ القرآن ، سمعتُ كثيرًا من مناظرات الدكتور أحمد ديدات وتأثرتُ فيه زمنًا طويلًا بالإضافة لدراستي في ورشة تدريبية مكثفة تعلمتُ فيها آنذاك عن مقارنة الأديان وطريقة دعوة النصارى للإسلام من خلال الإنجيل لذلك أيها السطحي توقف عن الحكم علي من مظهري !!

شاركنا الجلسة أحد المزارعين البسطاء بدا ليه في نهاية الأربعين ، عند نهاية الإفطار وعندما رحل البقية ، سألني باستعجاب عن جدوى النظرة الشرعية .. نصيحةٌ مبطنة .. ولكنها لم تغضبني لأنني أعرف أن هذا المزارع رجلٌ طيبٌ على سليقته ..

ما لا أحبه هو تناقل الأخبار بين السيدات ، لم أدرك أن تناقل الأخبار يحدثُ أيضًا في عالم الرجال ، منذ لحظةِ وصولي إلى مركز الأبحاث العضوية في عنيزة وبعد أقل من ساعة من إخباري للأصحاب عن خلفيتي الدينية تفاجأتُ بأحد الدكاترة الكبار في مجال علم النبات يلقي علي التحية ، يسألني بانبهار “سمعت إنك خريجة شريعة” ، تخصصي الدقيق عقيدة إسلامية ولكن غير المتخصصين يصنفون التخصصات الدينية جميعًا تحت مسمى واحد هو الشريعة ، لهذا قلتُ نعم . وقد تفاجأتُ كثيرًا من كيفية انتشارِ خبر “غير مهمٍ” كهذا .. غضبتُ في البداية ولكنني رضيتُ سريعًا .. هذا الدكتور يعد من أوائل الذين دخلوا مجال الزراعة العضوية منذ ما يقارب الثلاثين سنة ، لهذا يحمل منصبًا فخريًا في الوزارة ، يحترمه ويقدره الجميع ، ويقدمونه في كل شيء .. لم يكن هينًا .. أذكر أنني حاولتُ كسب اهتمامه في معرضٍ سابق جمعني به ، ولم أستطع .. ربما كان للمكان الصاخب دورٌ في عدم استطاعتي كسب اهتمامه ..

لهذا أسعدني اهتمامه بي اليوم ، بدا شغوفًا بي ، قرأتُ اهتمامًا لطيفًا في وجهه ، حتى أنه طلب بطاقة أعمالي وجلس معي على وجبة الغداء وكان يحاول فتح الأحاديث معي ..

لهذا لم يغضبني كثيرًا تناقل الأخبار ، أظن أن لمعرفته بتخصصي الجامعي دورٌ في تحسن نظرته تجاهي ، بالإضافة إلى إعجابه بالورقة التي قدمتها ضمن ورشة العمل التي تنظمها الوزارة ، كان حديثي كالعادة على المسرح ارتجالي ، متزن ، يميل للفصاحة .. وأحمد الله أنني حظيتُ على إعجابه لأنه في نهاية اليوم جلس جميع المحاضرين على المسرح لتلقي الأسئلة والإجابة عنها ، وقد أحرج الدكتور (بحكم علمه وكبر سنه) بعض المحاضرين ، بسؤالٍ تحجيري! أو بانتقاد لاسع .. وقد خفتُ قليلًا ولكنه كان راضٍ عني لم يمسني إلا بسؤالٍ منطقي يخص ورقتي..

كانت فقرة الغداء هي الفقرة الأصعب على الإطلاق ، كان جميع من في الصالة رجالٌ في منتصف العمر ، كانت الصالة ممتلئة بهم ، بدوتُ محرجةً جدًا من داخلي ولكنني كنتُ متماسكة ببراعة ، ملامحي كانت طبيعية ، كان الغداء عبارةً عن “رز ولحم” والحمدلله إلى آخر يومٍ في حياتي أن الغداء كان على طاولات وليس على الأرض ، لم تكن هناك “ملاعق” على الطاولات سوا في طاولةٍ واحدة خصصوها لي وللأجانب وقد وجهوني للجلوس هناك ، وهناك رآني الدكتور واستأذنني في الجلوس معي ، وتبعه آخرون ..

احتكاكي بالرجال علمني المزيد عنهم ، مثلاً لم أكن أدرك أن لديهم غيرةً من بعضهم ، أو على الأقل كنتُ أظن أن الغيرة وإن وجدت فهي بين الشباب الصغار .. كان هذا اعتقادٌ خاطيء ..

أحببتُ في هذه التجربة خروجي من منطقة الراحة ، رغم أنني أتقنتُ تمثيل الثقة المطلقة والقوة المطلقة .. ولكنني في داخلي ارتبكتُ كثيرًا ، وأحرجتُ كثيرًا ، وتعبتُ كثيرًا .. وفعلتُ أشياءَ لا تشبهني

الخروج من منطقة الراحة يطورني ويحسن من روحي ، ويزيد نضجي ..

في نفس اليوم ، خرجتُ بصحبة سيدة أعمال ناجحة ، ترددتُ كثيرًا كعادتي في لقاءها ، ولكنني فعلتها في النهاية والحمدلله أنني فعلتها ..

ألهمتني هذه الصديقة بنجاحها وذكاءها .. وسأحرص على توطيد العلاقة معها ..

في نهاية اليوم عدتُ للرياض ، إلى أمي ، إلى غرفتي .. إلى الأمان

اكتب تعليقًا