أمر عَمييـــييق’

صخب المدينة الكبرى جعل من سكانها عبيداً لهذا الضجيج ..
وكأنه بات جزءاً منهم لا يفارقهم البتة ..
على شرفة أحد الناطحات هناك ، في البعيد الأعلى ..
شعر يغطي ملامح قهر الأيام ، هنـاك .. رجل بشموخ مكسور ..
وفِكر مهزوز ، هنـاك .. تقف روح تتوق إلى جهنم ، هرباً من جهنم !
أخفض عينيه لأسفل وكأنه يودع الأرض التي احتضنته حياً وحان وقتها لاحتضانه بشكل آخر ..
ينـظر هنا وهناك ، واقف والدنيا تسـير
بأهازيجها ، بأفراحها وأتراحها ، بهزلها وجدها ، تلك التي توقد نيران الهم على الطفل الصغير ..
لا راحة فيها ، لا هناء ، لا أوكسجـيييين !
خطر على باله آخر كلمة سيقولها للدنيا والعالم ..
ماذا تراني سأقول قبل أن أفارق الدنيا البائسة ؟!
فكر لوهلة ، هتف بصوت عميق .. ( وُلد سيئاً ، وسيموت سيئاً ) ..
ثم حـانت لحظة الصفر ..

وعلى الضفة الأخرى من المدينة .. يسير شاب طَلق المحيا ، تحفه نسمات الهواء المنعشة التي بدورها
جعلت من خصلات شعره طيوراً سجينة تحاول التمرد والتحليق لأعلى ..
ضحكة ملأت فاه بعد أن أنهى مكالمته وهـو يحلق بأقصى سرعته إلى حيث المكان المطلوب ..

تساءل في داخله عن سبب هذا الازدحام .. الذي لم يكن معتاداً فيما سبق ..
أخرج رأسه من النافذة باحثاً عن مصدر ذلك الازدحام الذي سبب توقفاً مرورياً ..
ثم رفع رأسه باحثاً عن حفنة هواء نقي وسط خليط من الهواء الملوث ..
نقطة بعيدة هناك ، في ناطحة تقطن في الشارع المجاور ..
يا إلهى ! ، ماذا أرى !! ..
فكر الشاب لوهلة سريعة ثم فتح باب سيارته بعد أن أيقن أنه ثمة من يريد الـانتحار ..
وبحمية فطرية لإنقاذ ذلك المجهول سـار الفتى بخطوات كانت سريعة وسط ذلك الكم الهائل من السيارات ..
قفز متجاوزاً الشارع الأول ، متجهاً صوب الآخر الذي بدوره لا يقل ازدحاماً عن الآخر ..
وصل الشاب لحين مكان الناطحة ، وقف أمامها ، وأخذ ينظر نحو الفتى البائس في الأعلى .. وبداخله محاولة
ملحة للحفاظ على حياة المجهول ، التي اقتربت نهايتها ..
صرخ بعنف : يـــا هذا ، قف ، لا تسقط ، .. كررهـا مراراً / قف ، لا تسقط .. قف ، لا تسقط .. !
ثم صمت مرغماً متأملاً أي تجاوب من ذلك الغريب .. ،
ولكن .. لا صوت .. سوا تحـركات السيارات المزعجة !
أعـاد الصراخ من جديد : يــــاهذا ، لا تموت ، أرجـوك ، أريد أن أحادثك قليلاً قبل أن تنتحر .. قليلاً فقط ..
وردد بألم يعتصره : أرجـوك ، قليلاً فقط !
وكسابقتها لم يلق أي جواب ، رغم أنه أحس بنظرات تلك البائس تتجه صوبه بألم .. مما حدا به إلى إعادة عباراته
من جديد ، واستدراجه من جديد ..

من الأعلى ينظر البائس إلى أحدهم يستجديه ألا ينتحـر ، بات ينظر إليه .. نظرات بلا معنى ..
والصوت من الأسفل يكرر رجائه ، أرجوك أرجوك ، الحياة جميلة فقط ابحث عن جمالها وستجـ ..
ولكن صاحبنا سكت عن الكلام فجأة ! ..
من الأعلى ، ينظر بائسنا نحو الأسفل ، متفقداً ذلك الصوت الذي كان يستنجده منذ قليل ..
ليرى غبار سيارة قدمت من بعيد ، ثم رمت بذلك الرجل أمامها .. وأكملت المسير ..
المستحيل الأول في تلك الساعة .. إن ظن أحد ما أنه لا زال للرجل عرق ينبض ..
المشهد كان بشعاً جداً ، وآثار دماء الرجل باتت بركة ليست صغيرة ..
هتف البائس بألم الدنيا : حـــتى قبل موتي بلحظات لا بد أن أحدث أمراً سيئاً ! ..
ثم عاد يردد بدموع حـارقة : ولد سيئاً ، وسيموت سيئاً .. إلى الجحـيم يا روحي ..
ثم أغمض عينيه وألقى بنفسه تجـــاه الأرض … إنها النهاية !
وفي داخله سعادة مؤلمة بالرحيل من الحياة الشائكة ..
وحـــانت اللحظة !
بعد ثوان ليست طويلة ، فتح البائس عينيه معتقداً أنه قد انتقل إلى المدينة البرزخية ..
إلا أنه يرى أمامه كومة من السيارات المزعجة ، وضجيج يملاً المكان ..
لم أمت !
لم أمت !
الغرابة تسبق الألم هذه المرة في قلب بائسنا .. لقد اختار الناطحة الأعلى في تلك المدينة ..
لقد اختـار الأرض الأقسى .. واختار مكاناً يستحيل فيه الإخفاق ..
ألم تكن الناطحة كافية العـلو لتقتلني ؟
لمـاذا لم أصب بأذى ، لماذا أنا بخير – تماماً- !!
وما إن أتم سلسلة الأسئلة التي تقتل رأسه وهـو يتفقد جسده السليم ..
إذا به يرى نفسه جالساً على جــسم غير صلب ! ..
إنه جـسد صاحبنا الغارق بالدماء ..
إنه جسد ذلك السعيد الذي كان يحـاول أن يمنع البائس من الانتحـار ..
خــيم سكون في أرجاء عالمه ، وتحـول ضجيج السيارات والشرطة والبشر والإسعاف إلى صمت قاتل !
وقف البائس ، سار صوب جسم صلب كأنه جدار خشبي ، وأمسك برأسه وجعل يضرب به ذلك الجدران ..
ويصــرخ بآلام الدنيا ، ويبكي كالطفولة المقتولة .. ، ويضرب كالمطرقة الحادة ، ..
الكائنات حـوله ، كلها صمتت ، حتى السيارات .. الجميع توقف .. الفضول والحزن يعمان المكان ..
لا زال الرجل يضرب ، ويصرخ ، .. لقد بات يعلم الـآن كل شيء ..
( حـــياة رجل يريد الموت ، ومـــوت رجل يريد الحـــياة ) ..
لقد بات يعرف الحِكم الربانـية العميقة من الحياة ، ..
بكى ، بكى كثيراً .. وتألم ~

ملاحـظة :
– الصورة أعلاه لـأحد شوارع مدينة الريـاض

4 تعليقات

  1. كم هي رائعة هذه المقالة ,

    “( حـــياة رجل يريد الموت ، ومـــوت رجل يريد الحـــياة )”

    هذه باختصار حال الاشخاص كم من عليل جسديا او روحيا عاش وهو يريد الموت وكم من متفاءل مات مع ايجابيّته
    “فكم من صحيح مات من غير علة … وكم من سقيم عاش حينا من الدهر”

    ولكن لا ننسى أو بعد الموت تبقى الذكرى , يجب علينا الحرص على جعل الناس تقرن صورتنا بالذكرى الطيبة .

    تقبلي مروري اختي الكريمة

    اخوك عيسى ابراهيم

    1. أفاتار Noura almngzh كتب:

      صدقتْ أخـي عيسى ، وفي كل الأحُوال .. نحن نريد والله يفعل ما يريد ..
      عسى الله أن يطيل بأعمارنا على طاعته ..

      كنُ دائماً يالجوار ..

  2. أفاتار Asma Asma كتب:

    نون :
    تصفيقـة بـ عمق / هنا الحروف عقيمـة
    تبارك الرحمـآن ♥

    1. أفاتار Noura almngzh كتب:

      شكراً بحجم العمق الذي تشعرين به ❤
      سعيدة بكِ دائماً

اترك رداً على almngzh إلغاء الرد